لا تبادرني أيها القارئ الكريم بالتعجب والإستغراب من عنواني هذا، لحضور الجواب التلقائي في عقلك، وإنطلاقه على أطرف لسانك، لأني مثلك حينما سُئلت هذا السؤال!!
غير أني بعد أن أمعنت نظري في أحوال بعض بيوتنا رأيت حاجتنا الملحة لطرق هذا الموضوع بكل وضوح وشفافية!
وسرعان ما زال الإستغراب مني وسيزول عنك بلا ريب حينما رأيت سلف الأمة قد أعطوا هذا الموضوع نصيبه من التفصيل العلمي الدقيق في كتاباتهم الفقهية.
وإن من المُسَلّمات هنا أن الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمة الإنفاق على الزوج تجاه زوجته، بل عدَّ ذلك مما فضله به عليها فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
وهنا تأتي رحمة الله بالمرأة حينما جعلها مكفولة في نفقتها، لا تحتاج إلى أن تمد يديها إلى أحد من الناس ما دام أن هناك من تجب عليه نفقتها من الرجال أمًا كانت أو أختًا أو بنتًا أو زوجة، فيالها من صيانة للمرأة تتميّز بها شريعة الإسلام، لترفع بها المرأة إلى قدر كبير من التبجيل لها والإحترام لأنوثتها ورقتها.
ولا يخفى عليك أيها الحبيب كم للتفكير في النفقة وجلبها من هَمٍّ يؤرق الرجال فكيف نريد أن تتحمله المرأة!!.
لقد أنزل الله تعالى هذا الحق لها من فوق سبع سموات فقال سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7].
فليست كفايتها في حقها بالنفقة حكمًا بشريًا ربما يزول أو يتغيّر، بل هو حق رباني لا يحق لأي قوة مهما بلغت أن تحجبه عنها أو تفكر في منعها منه.
لقد عَجِبَت تلك المرأة الكافرة التي أتت إلى مكان مع رجل مسلم حينما سألته عن تتابع الإتصالات الهاتفية عليه فسألته عن ذلك، فقال لها: إنها زوجتي تريد بعض حوائجها وحوائج أبنائها من السوق، فقالت: ولماذا لا تشتري هي هذه الأشياء بنفسها ومن مالها؟
فأجابها بكل عفوية: إن هذا من واجبي نحوها، فزاد عجبها فقالت: ومن الذي أوجب عليك هذا؟ فقال: ديني، فأصيبت بالذهول.. كيف لا.. وهي تلقي بنفسها بين أحضان الشهوة المحرمة، وتقدم عرضها سلعة رخيصة مهينة لكل من يريدها.. في مقابل ما تراه يوفر لها المعيشة والحياة كالآخرين.. لم تقطع حديثها بل واصلت تسأل عن هذا الدين الذي يكفل المرأة بالنفقة عليها والرعاية لها ولأولادها.. فأجابها: إنه الإسلام.. فبحثت عن تعاليمه.. وقرأت عنها..وسرعان ما هداها الله تعالى إليه..بل وهدى على يديها أمثالها.
وإن الزوج حينما يقوم بمسؤولية الإنفاق على زوجته يهيئها لمسؤولية أليق بها وأنسب، يعود نفعها عليه وعليها وعلى أسرتهما بل وعلى المجتمع كله أيضًا، فهي التي توفر الراحة النفسية والبدنية له، وتمنحه المزيد من السعادة والمودة، حتى إنك لترى ذلك واضحًا على نتاج الرجل في حياته العلمية والعملية، أضف إلى ذلك مهمة تربية الأجيال، وصناعة المستقبل، وأكرم بها من مهمة، ولقد تجرع المجتمع المسلم مرارة تقصير الأمهات في هذه الوظيفة الشريفة، حينما نشأ لنا جيل تربى على أيدي الخادمات والمربيات، وقد تنكر لوالديه أولاً، ولأحكام دينه وجميل عادات بلده وتقاليده ثانيًا.
إنه لن يكون لحديثنا داعٍ حينما نرى الزوجين يعيشان حياة الوئام والصفاء، يقوم كل واحد منهما بالحقوق الواجبة عليه تجاه الآخر، فالزوج ينفق كما شرع له أن ينفق، والزوجة تمنحه من السعادة والأنس ما تنسيه به تعبه ونصبه، حتى أنك لا تسمع للماديات في كلامهم همس ولا حرف، تشرق عليهما أطياف المودة بكل ألوانها البهيجة، ولا أجمل من وصف حياتهم الهانئة من وصف الله تعالى لها حيث قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
ولكن حينما يدب داء التقصير في زوايا البيت، تتسلل الخلافات إليه، لتعكر صفو السكن، وتحيل هدوءه إلى صخب وضجيج، فما أسباب الخلافات حول النفقة على الزوجة خصوصًا وعلى المنزل عمومًا؟ يمكننا بالإستقراء أن نلخصها في عدد من الدواعي:
أولاً= ضعف الدخل المادي لبعض الرجال، لأن من طبع الرجل السويّ أنه يأنف أن يكون عالة على زوجته في النفقة، ولكن ضيق ذات اليد تلجئه أحيانًا أن يطلب من زوجته النفقة ولو أدّى هذا الأمر لأن تعمل هي خارج المنزل، هذا في حالة الضعف المادي فما بالك إذا سقط الرجل في هوة البطالة، وأصبح فردًا ضمن نسبة تقول أن 12.5 مليون عاطل في الوطن العربي يبحثون عن العمل!!
ثانيًا= البخل والشح الذي يصاب به بعض الرجال بحيث يقصّر في نفقته عن قدر الكفاية الذي يجب عليه إنفاقه، وهو الحال الذي ذكرته هند رضي الله عنها لرسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ» رواه البخاري.
فأمرها بأن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف بإذن أو بدون إذن، ما دامت أنها قامت بحقوقه، وقد قصّر في حق النفقة تجاهها وولدها، ولكن بالمتعارف عليه في المجتمع.
ولقد أظهرت دراسة إختارت لها عينة من تمتد من الخليج العربي إلى لبنان إحصائية تقول أن النساء اللواتي يواجهن بمثل هذا الشح في النفقة عليهن تصل إلى 75% مع أنها نسبة عالية ولذا فإني أنقلها وأتحفظ عليها!!
ثالثًا= الجهل بالأجر العظيم الذي أعدّه الله تعالى للمنفقين عمومًا في سبيل الله وعلى المنفقين على أهليهم بالدرجة الأولى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ،وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» رواه مسلم.
فليس من الصواب أبدًا أن يقابل الإنسان نفقته على زوجته وبيته بالتذمر والتأفف، أو بالمن والأذى، والله تعالى يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6]، وإذا كان الله تعالى قد أخبر ببطلان الصدقة المطلقة إذا أتبعها بالمن والأذى فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264]، فلا يبعد أن يبطل ثواب النفقة على الأهل والذرية مع أنها أعظم أجرًا من الإنفاق في سبيل الله كما في الحديث السابق.
رابعًا= عدم زرع المودة والسكن والمحبة بين الزوجين في بداية الزواج، وعدم الشعور بالنفس الواحدة أو بالثقة بينهما، فتجد أن الزوج يحسب ما أنفق على زوجته وعلى بيته ويذكرها بذلك دائمًا بمنة وأذى!! كما أن الزوجة ذات المال تتردد في المشاركة بالنفقة، لأنها تقول: أنا لا أضمن إن أعطيته مالي لينفق على البيت أو لعمارة البيت وتأثيثه أو شراء سيارة أنه بعد ذلك يطلقني أو يتزوج بأخرى بسبب تعاوني معه في تخفيف مصاريف النفقة على المنزل!! ويقوّي هذا الظن في عقول بعض الزوجات تصرفات بعض الرجال الذين لم يعرفوا لهذا الإحسان حقه.
خامسا= فهو إنبهار الزوجة أحيانًا بالمال وبالوظيفة حتى إنها تجعلهما في مقابل حياتها الزوجية السعيدة، فهي تريد أن تجمع بين الخروج من المنزل للعمل وإكتساب المال منه، مع الإستمتاع بحياة زوجية هانئة، وعدم حدوث أيَّ مشكلة بسبب هذا كله، وألاّ يطالبها الزوج بحقوقه، وهذا ربما كان عسيرًا في تقبّله أو التأقلم معه، فلو أن الزوجة كانت حريصة فعلاً على هذه المكتسبات المادية والمعنوية، لرأيتها تضاعف شيئًا من جهدها لتقوم على زوجها خير قيام إذا أتت إلى منزلها، حتى لا يشعر بتقصيرها معه، بل ولا يفكر في مطالبتها بترك وظيفتها، وإذا كانت لا تستطيع ذلك لأي عذر في صحتها أو طبعها، فلا أقل من أن تشاركه بالنفقة مقابل ذلك بالمعروف وبما يناسب إكتسابها.
سادسا= تورّط الزوج في المحرمات من قروض ربوية تلاحقه، أو إدمان المخدرات والمسكرات، وما يعقبه أحيانًا من سجن ونحوه، فهذا يجعل العبء على المرأة كبيرًا وثقيلاً، وخصوصًا إذا كان الزوج لا يحمل في قلبه مسؤولية البيت، ولا هم معيشة الأولاد أو رعايتهم.
كتبت إحداهن عن نفسها فقالت: عشت مع زوجي في بداية حياتنا حياة هانئة، فزوجي الحنون الكريم تغيّر بعد سنة واحدة من الزواج، وكنت قد أنجبت طفلتي الأولى.. ومن بين دموعها تضيف عائشة: لقد دخل زوجي عالم المخدرات من خلال الصحبة السيئة التي كان يقضي معها معظم وقته، إذ صار راتبه مخصصًا لهذه الآفة..، عندها وجدت نفسي مضطرة لأن أقوم بالنفقة على البيت، وذلك بعد أن حاولت إقناعه بدخول المستشفى للعلاج لكنه رفض ذلك تماماً.. وبقلب مؤمن ورضا تقول عائشة: إنني أحمد ربي وأشكره لأن راتبي كبير بحيث يكفي لجميع نفقات البيت بالإضافة إلى مرتب الخادمة، وتضيف أنا راضية بقدري وهو مع هذا السوء أفضل من الطلاق الذي نصحني به البعض!!
ونحن نقول: ماذا عمّن ليس لها راتب كبير أو ليس لها راتب إطلاقًا!!
سابعا= الظروف الطارئة من موت أو مرض أو إعاقة، وهذا ظرف خاص له أحكامه الخاصة به، وليس موضع حديثنا، لعدم وجود عنصر الإختلاف فيه.
ولهذه الأسباب ونحوها أظهرت إحصائية في مدينة القاهرة أن 31% من أسرها تعولها النساء، وفي عمّان الأردن تصل نسبة النساء المنفقات على أسرهن إلى 20%.
ومعرفة الأسباب وواقع الإحصائيات يهيب بأهل الدراية والمسؤولية أن يلتفتوا إلى هذا الموضوع بجدية والعمل على كل الأصعدة.
[] لماذا وجبت النفقة على الزوج؟
والجواب يوجزه ابن قدامة قائلاً: هو أن المرأة محبوسة على الزوج -أي مقصورة عليه-يمنعها من التصرف والإكتساب، فلا بد أن ينفق عليها -المغني: 11/348.
وهذا منتهى العدل والضمان الحقيقي لحق المرأة المسلمة، فليس نفقة الزوج عليها من باب التفضل منه والمنّة عليها، وإنما هو من فضل الله الذي منحه إياه، وكتبه لها مقابل معاشرتها له بالمعروف، والقيام على إسعاده وراحته، وبهذا الإنسجام في القيام بهذه الحقوق تعيش الأسرة المسلمة حياة سعيدة رغيدة.
وتأمل معي -يا رعاك الله- كيف شقيت المرأة الغربية حينما نزلت إلى حضيض الإهانة فإبتذلت إنسانيتها فضلاً عن أنوثتها، وكسرت حياءها إلى أن قامت ليس بأعمال البشر، ولو كانت فاحشة وساء سبيلاً كالزنا، وإنما بأعمال الجمادات، فقد حدثني أحد الإخوة أنه حينما زار بلدًا أوروبيًا رأى في الأسواق ما يقف الإنسان العاقل أمامه مشدوهًا، إنها المرأة تقوم خلف زجاج المحلات التجارية مقام الدمى التي توضع عليها الملابس بكل أشكالها، حتى لتظن أنها من جمودها كأنها من الشمع، وإذا بها تتحرك بين الفترة والأخرى بحركات ترى أنها تثير إعجاب المتسوقين، فإذا إنتهت فترة عملها، جاءت غيرها مكانها، وذهبت إلى منزلها بنفسٍ تحمل في ذاكرتها أنظار المتفرجين والمتفرجات بكل ما تعنيه من مهانة لها وإكبارٍ أو إسفاف لما إرتدته من أزياء، وكأني بها تقول في نفسها كما قالت عارضة الأزياء الفرنسية المشهورة: إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرّد صنم متحرك مهمته العبث بالقلوب والعقول، والتي أضافت قائلة: عشت أتجوّل في العالم عارضة لأحدث خطوط الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور، ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل ولا حياء، وقد ختمت آهاتها المحرقة قائلة: لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ إلا من الهواء والقسوة، بينما كنت أشعر بمهانة النظرات وإحتقارهم لي شخصيًا وإحترامهم لما أرتديه، هذا ما قالته فابيان الفرنسية البالغة من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وذلك بعد إسلامها وفرارها من ذلك الجحيم الذي لا يُطاق.
والمرأة المسلمة التقيّة حتى لو خرجت للعمل، فإنها خرجت لأداء رسالة يأمر بها دينها، وهي تعليم بنات جنسها دين ربها، أو معالجة أدوائهن، أو نشر الفضيلة عبر الصحافة النقية، أو المشاركة في أعمال البر والإحسان في مجتمعها بما لا يخلّ بحشمتها ولا يعرّضها للفتنة، وهي بتقواها وصلاحها تسعى ألاّ يؤثر هذا على سعادتها مع زوجها أو يقلل من رعايتها لأبنائها، ولو أخذ منها هذا أو ذاك جهدًا أكبر، لأنها تعلم علمًا يقينيًا أن الحياة جهاد، وما أجمله أن يُبذل لسعادة الأسرة ونهوض الأمة.
ولفتة أتمنى من الزوج صاحب النظرة الثاقبة البعيدة أن يلتفت إليها، وهي أننا نعلم بلا ريب أنك ترغب في زوجة لا تُنقِص من حقوق إسعادك شيئًا، ولكن هل لك أن تعذرها فيما يبدو منها من نقص في بعض حقوقك؟ فهي تظل بشرًا، وإذا علمت أن سبب تقصيرها هو عملها الشريف الذي تخدم به مجتمعك وأمتك، فهذا يشفع لها في غضّ النظر عما يبدر منها من تقصير، فلتكن عونًا لها، ولتكن عونًا لك، لتسير دفّة المنزل والمجتمع نحو السعادة والنجاح.
الكاتب: د. فيصل بن سعود الحليبي.
المصدر: موقع المستشار.